الرئيسية » مقالات مكتوبة عن المكتبة »
 

المصير الحزين للمكتبات العائلية بالقدس

 

أسامة العيسة
القدس _ خاص بمؤسسة فلسطين للثقافة

لا يلتفت السائرون، في طريق باب السلسلة المؤدي إلى المسجد الأقصى المبارك، عادة إلى بناية مميزة في هذه الطريق القديمة الشهيرة، ما زالت توجد لافتة على بابها المغلق تشير إلى أنها (المكتبة الخالدية) التي تأسست عام 1900م.

وبجانب البناية المميزة بعمارتها الإسلامية ومدخلها المملوكي الطابع، شق المحتلون الجدد للقدس طريقا أخرى إلى الحائط الغربي للمسجد الأقصى كما يطلق عليه الغربيون، أو حائط البراق كما يطلق عليه إسلاميا والمعروف يهوديا بحائط المبكى، في إشارة تتجاوز المعنى الرمزي للتهديد الذي يحيط بهذه المكتبة، التي كانت أهم المكتبات الخاصة في المدينة المقدسة، والتي زخرت بالمكتبات الخاصة والعامة في وقت من الأوقات ازدهرت فيها المدينة، وشكلت مع مدن أخرى في المشرق العربي، كالقاهرة ودمشق، فضاءا ثقافيا تجاوز الحدود المحلية بكثير.

(تربة ومكتبة)

والبناية الني توجد فيها المكتبة، هي أساسا تربة مملوكية، تسمى تربة بركة خان، على اسم أمير مملوكي، وتضم قبره بالإضافة إلى قبري ولديه بدر الدين وحسام الدين.

وتذكر بعض المصادر بان البناية استخدمت كمدرسة انتهت إلى خديجة الخالدي، ابنة القاضي موسى أفندي الخالدي قاضي عسكر بر الأناضول، فأوصت ابنها راغب الخالدي الذي تولى مناصب قضائية مثل جده، أن يحولها إلى مكتبة لتحتوي الكتب التي تجمعت لدى العائلة.

واستعان الخالدي بالشيخ طاهر الجزائري مؤسس المكتبة الظاهرية في دمشق، والذي عرف عنه عشقه للمخطوطات، والشيخ أبي الخير محمد بن الحبال الدمشقي اللذين وضعا فهرسا بأسماء كتبها، ونفذ وصية أمه وافتتحت المكتبة عام 1900.

ويمكن تتبع ظروف تأسيسها في "برنامج المكتبة الخالدية العمومية" ومن اقتباس ما جاء في هذا البرنامج نقلا عن الموسوعة الفلسطينية، نعرف أن أفراد عائلة الخالدي جعلوا المكتبة "دار علوم عمومية لمن يرغب المطالعة من أي فرد كان، وشرطوا أن لا يخرج منها كتاب حرصا على المنفعة العامة، وهي مفتوحة الأبواب لجميع الطلاب كل يوم من الصباح إلى المساء، وعينوا لها محافظا أمينا".

ولم يكن هذا المحافظ سوى الشيخ طاهر الجزائري، الذي كان رجل علم وادب أتقن عدة لغات هي بالإضافة للعربية، الفارسية والتركية والفرنسية، والامازيغية، والسريانية والعبرية والحبشية، ثم خلفه في أمانة المكتبة الشيخ أمين الأنصاري.

وضمت المكتبة بالإضافة إلى كتب عائلة الخالدي المتوارثة، كتبا للمستشرقين، ومكتبات أخرى لأعيان آخرين كان يطلق على المكتبة منها "خزانة".

ومن تتبع ما نشر عن هذه المكتبة يتبين مدى أهميتها، حتى خارج فلسطين، فمثلا نشر المثقف المقدسي عبد الله مخلص عام 1924 في مجلة المجمع العلمي العربي في دمشق، قائمة بأهم المخطوطات التي احتوتها.

ومما كتبه مخلص نعرف أنها تضم مخطوطات نادرة لابن عربي، وابن الجوزي، ولشاناق الهندي، ولابن الأثير وآخرين.

وحسب مؤرخ مدقق مثل عارف العارف، فإن هذه المكتبة ضمت 12 ألف كتاب عام 1945، استنادا لنشرة دائرة الآثار بحكومة فلسطين الانتدابية، من بينها 4 آلاف مخطوطة.

وتعرضت هذه المكتبة مثل المكتبات العائلية العديدة بالقدس إلى تقلبات الزمن، وهذا يتضح من فهرس أعد عام 1973، بين أنها تحتوي على نحو 6 آلاف كتاب من بينها نحو 1500 مخطوط، وهذا يعني فقدان بضعة آلاف من محتوياتها.

وواجهت المكتبة مطامع إسرائيلية في المبنى الأثرى الذي تقع فيه، لقربه من حائط البراق (المبكى)، وحاول المحتلون الجدد للمدينة المقدسة الاستيلاء على جزء من المبنى، ورفعت عائلة الخالدي قضية انتهت عام 1987، لصالحهم وبقاء المبنى بحوزتهم، ولكن المكتبة، التي انتصرت على محاولة الإسرائيليين الاستيلاء عليها، هزمتها عوامل أخرى أدت إلى إغلاقها، وأصبح حالها كحال سبيل الماء الخرب في مدخلها، ولا يعرف سببا مقنعا لإبقائها مغلقة، رغم أن جهودا ملحوظة بذلها أفراد من العائلة الخالدية بينت مدى اهتمامهم بالمكتبة، ومن بينهم الباحث المعروف الدكتور وليد الخالدي.

(بصيص ثقافي)

وإذا كانت المكتبة الخالدية أشهر مكتبة عائلية خاصة مهمة بالقدس، فإنها ليست الوحيدة، ولكن ظروفها ومصيرها تشبه كثيرا مثيلاتها.

وحسب الباحث خضر سلامة مدير مكتبة المسجد الأقصى، فإن المكتبات العائلية في فلسطين كانت هي البصيص الثقافي الوحيد المشرق فيما بعد القرن السابع عشر الميلادي في القدس خاصة وفلسطين عامة.

ويقول إن المكتبات العائلية كانت عبارة عن مكتبات فردية وشخصية بكل ما في الكلمة من معنى، أسست بجهود أفراد درس معظمهم في الأزهر الشريف في مصر، ثم عادوا إلى القدس ليفقهوا الناس، وكانوا هم المنارة التي تشع بعلمها على المنطقة التي يعيشون فيها، وعلى خارجها في أحيان قليلة.

ويشير سلامة، إلى أنه بعد وفاة أصحاب المكتبات بفترة تطول أو تقصر أصبحت هذه المكتبات تنسب إلى عائلاتهم.

ويضيف "رغم أنني شخصيا لم أجد أي جهد ذي شان لأي من هذه العائلات في تطوير المكتبات، بل على العكس من ذلك تماما، فان الكتب كانت تغلق عليها الأبواب بعد وفاة مؤسسها ولا يستفيد منها أحد وبدل أن تزداد مجموعتها وتوظف لخدمة الباحثين، فإنها تأخذ في التناقص لسبب أو لأخر، ولا أدل على ذلك من كم المعلومات المتناثرة في المراجع التي تتحدث عنها وتذكر صعوبة الوصول إليها وكتبها وما آلت أليه".

ويذكر سلامة، أن المكتبات العائلية المعروفة والتي ما زال قسما منها متبقيا لا تتعدى ثلاث مكتبات هي بالإضافة إلى المكتبة الخالدية المغلقة منذ سنوات "مكتبة الشيخ محمد الخليلي ونقلت إلى مكتبة المسجد الأقصى، ومكتبة محمد بن حبيش المعروفة بالمكتبة البديرية ومكانها بيت آل البديري في باب الناظر وهي مغلقة".

ويشير سلامة إلى أن المصادر التاريخية تشير إلى وجود مكتبات أخرى كثيرة ولكنها "اندثرت سواء نتيجة الحروب أو عوادي الزمن أو تشتيت كتبها أو اقتسامها من قبل أفراد العائلة".

ومن بين المكتبات العائلية التي كانت جزءا من المشهد الثقافي بالقدس: مكتبة عائلة أبي اللطف، ومكتبة عائلة الترجمان، ومكتبة عائلة الحسيني، ومكتبة عائلة الخليلي، ومكتبة عائلة الداودي، ومكتبة عبد الله مخلص، ومكتبة عائلة قطينة، ومكتبة محمود اللحام، ومكتبة عائلة فخري، ومكتبة محمد إسعاف النشاشيبي، ومكتبة عائلة لمؤقت، وغيرها.
 
المكتبة الخالدية

الواجهة الامامية للمكتبة الخالدية
سبيل ماء في المكتبة الخالدية
شباك المكتبة الخالدية

مبنى المكتبة الخالدية
نقوش على واجهة المكتبة الخالدية

واجهة المكتبة الخالدية

(المكتبة البديرية)

واهتم سلامة بإعداد فهرسا للمكتبة البديرية المعروفة أيضا باسم (مكتبة الشيخ مجمد بن حبيش) التي تحوي "ستمائة وستة وثلاثين مخطوطا ورسالة، أي أن محتواها مائتان وثلاثون مخطوطا، وسبعون مجموعا، بلغ عدد رسائلها أربعمائة وست رسائل، واقدم تحليل ورد على المخطوطات باسم الشيخ يعود إلى سنة 1175هجرية /1761ميلادية".

وينص التحليل "دخل في ملك الفقير محمد بدير حبيش".

ويقول سلامة "يبدو أن جزءا كبيرا من مخطوطاته قد جمع أثناء حياته سواء عن طريق الشراء أو الإهداء والوقف، وعن طريق هذه العلامات المميزة للمخطوطات يمكن دراسة اتجاه الكتب وحركتها في تلك الفترة، فنجد أن مكتبة الشيخ تحوي أربعة مخطوطات من مكتبة حسن الحسيني الخلوتي الذي توفي في أوائل القرن الثالث الهجري، وستة مخطوطات من مكتبة الشيخ محمد الخليلي وثمانية مخطوطات تعود للسيد عبد الحي جار الله، وتسعة مخطوطات اشتراها عبد الله ابن الشيخ وخمسة أخرى اشتراها محمد بن يعقوب وهو ابن الشيخ، كما نلاحظ وجود مجموع يتكون من خمسة مخطوطات نسخها محمد سعيد بن عبد الله الدنف الأنصاري، بعد وفاة الشيخ بسنوات طويلة".

ويلاحظ سلامة أن وجود عدد من المخطوطات في مكتبة الشيخ محمد بن حبيش تعود لعائلتي الخالدي والحسيني "يدلل على وجود تبادل ثقافي إذا جاز التعبير بين المتعلمين في تلك الفترة سواء في البلد الذي يعيشون فيه أو في خارجه".

ونظرة على توزيع المخطوطات حسب الموضوعات، يؤكد أهمية هذه المكتبة التي تضم في علوم القرآن الكريم "18 مخطوطا، وفي التفسير 14 مخطوطا ، الحديث ومصطلحاته 56 مخطوطا، أصول الدين 57 مخطوطا، التصوف والآداب الشرعية 93 مخطوطا، أصول الفقه 69 مخطوطا، الفقه 56 مخطوطا، مدائح نبوية وصلوات محمدية 28 مخطوطا، اللغة العربية 58 مخطوطا، الأدب العربي 95 مخطوطا، التاريخ 10 مخطوطات، المنطق 22 مخطوطا، الميقات 25 مخطوطا، الحساب 9 مخطوطات، الطب 4 مخطوطات، موضوعات متفرقة 22 مخطوطا".

(مكتبات للمباهاة)

ويمكن اخذ وضع المكتبة البديرية كنموذج لما آل إليه مصير المكتبات الشبيهة بالقدس، فيشير سلامة إلى أنه بعد وفاة ابن حبيش توقفت مكتبته عن التطور أو أداء أي خدمة، وهذا يعزز الرأي القائل، بان ليس للعائلات التي تملك المكتبات أي جهد في تطورها أو المحافظة عليها، وإنما أصبحت المكتبات تشكل نوعا من الفخر أو المباهاة، ودور العائلات هو حراسة الكتب في أماكنها المعتمة ومنع المهتمين من الاقتراب منها.

ويستشهد سلامة بما كتبه الباحث اسعد طلس عن المكتبة البديرية عام 1945م "آل البديري أسرة عريقة من اعرق اسر القدس، وكانت عندهم خزائن كبيرة غنية بمخطوطاتها، ولكنهم اقتسموها، فتشتت شملها".

واعتمادا على كتب تاريخية ومؤرخين أمثال مرتضى الزبيدي، والمؤرخ الأشهر عبد الرحمن الجبرتي صاحب (عجائب الآثار في التراجم والأخبار)، فان لدى سلامة ترجمة لحياة الشيخ محمد حبيش، الذي كان صاحب مؤلفات عدة ورسائل وقصائد صوفية.

ويبقى السؤال مشروعا ليس فقط عن مصير هذه المكتبات التي كانت في وقت من الأوقات "بصيص ثقافي"، ولكن أيضا عن مصير آلاف المخطوطات المتناثرة فيها؟.

المصدر : مؤسسة فلسطين للثقافة